إسرائيل تستأنف الحرب في غزة- أهداف خفية وتداعيات مستقبلية

في فجر يوم الثامن عشر من مارس/ آذار، شرعت إسرائيل مجددًا في تنفيذ عملياتها العسكرية الضارية في قطاع غزة. تأتي هذه العمليات في ظل المفاوضات الدائرة بشأن المقترح الذي قدمه المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، وذلك بهدف إيجاد مخرج للأزمة التي نشأت عن عدم التزام إسرائيل ببنود اتفاق وقف إطلاق النار، سواء في مرحلته الأولى أو بعد انقضاء المرحلة الثانية.
إن قرار استئناف العدوان على غزة يكشف عن الهدف الجوهري الذي تسعى إليه الحكومة الإسرائيلية من خلال خرقها المتواصل للاتفاق، ألا وهو إشعال فتيل الحرب مرة أخرى. هذا لا يعني بالضرورة أن إسرائيل كانت سترفض بشكل قاطع المضي قدمًا في مسار مقترح ويتكوف إذا ما وافقت عليه حركة حماس بالشروط الإسرائيلية المجحفة. فالمقترح في جوهره يعبر عن اتفاق بين طرف منتصر وآخر مهزوم في الحرب، أي بمثابة استسلام كامل، تتخلى فيه حركة حماس عن نصف الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لديها دون الاستجابة لأي من مطالبها السياسية المحقة، وعلى رأسها التعهد بوقف الحرب والانسحاب الكامل من قطاع غزة.
وبناءً على ذلك، تسعى إسرائيل إلى ممارسة ضغوط عسكرية مكثفة على حركة حماس، وذلك من خلال استهداف القيادات السياسية والحكومية، وكذلك المدنيين الأبرياء، بهدف إجبار الحركة على الموافقة على مقترح ويتكوف بشروطه الإسرائيلية، وترسيخ معادلة التفاوض القائمة على مبدأ المنتصر والمهزوم، وما يترتب على هذه المعادلة من انعكاسات خطيرة على مستقبل الاتفاق والمسار السياسي الراهن.
هذا هو الهدف الأساسي الظاهر من استئناف العمليات العسكرية الشرسة في قطاع غزة. فإذا ما رضخت حماس لمقترح ويتكوف بشروطه الإسرائيلية نتيجة للضغط العسكري المتزايد، فإنها ستكرس عمليًا، من وجهة النظر الإسرائيلية، الطريقة التي ستتعامل بها إسرائيل مع الحركة في المرحلة القادمة من المقترح، والتي تفضي في نهايتها إلى إطلاق سراح بقية المحتجزين. ولا شك حينها أن إسرائيل ستستخدم نفس الأسلوب القمعي (الضغط العسكري) للضغط على حماس من أجل القبول بالشروط السياسية التعجيزية التي تفرضها إسرائيل للإعلان عن وقف مستدام للحرب.
بمعنى آخر، فإن العمليات العسكرية الحالية كانت ستقع في كل الأحوال في المرحلة الحرجة والسياسية من مقترح ويتكوف. وهذا يؤكد أن خيار الحرب كان الخيار المفضل لدى الحكومة الإسرائيلية منذ البداية. ويأتي اختيار إيال زامير قائدًا لهيئة الأركان في هذا السياق بالذات، فهو اختيار لقائد لا يعاني من وخز الضمير بسبب إخفاق السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أو من أي التزام أخلاقي تجاه المحتجزين الإسرائيليين، وبالتالي فهو على استعداد لتنفيذ العمليات التي تخدم سياسات الحكومة الإسرائيلية المتطرفة.
هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن قائد الأركان السابق، هرتسي هاليفي، لم يمارس حرب إبادة جماعية في غزة، بل هو المسؤول الأول عن الدمار الهائل والإبادة الممنهجة التي لحقت بقطاع غزة. ولكنه نفذ ذلك كجزء من تحقيق أهداف الحرب المعلنة، وفي مقدمتها تحرير الأسرى الإسرائيليين.
وعند توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في يناير/ كانون الثاني الماضي، اعتبر هاليفي أن مهمته قد انتهت، وقدم استقالته كجزء من تحمله مسؤولية الإخفاق من جهة، ولعلمه على ما يبدو أن نتنياهو عازم على استئناف الحرب بعد المرحلة الأولى من الاتفاق، وهو لا يريد أن يكون شريكًا في هذه الخطوة المتهورة التي تهدد حياة الأسرى وتقوض إمكانية الإفراج عنهم.
أما زامير، فقد جاء وهو تواق إلى شن حرب ضروس على قطاع غزة، ليس من أجل الأسرى كما يزعم كذبًا، وإنما من أجل تنفيذ أجندات الحكومة الإسرائيلية السرية المتعلقة باحتلال القطاع، وتهجير سكانه الأصليين، وتحويل القطاع إلى مكان غير صالح للحياة بشكل نهائي.
وتعول الحكومة الإسرائيلية كثيرًا على دعم وتأييد ترامب لها في هذا التوجه العدواني، على الرغم من أن إسرائيل لم تكن جادة في تنفيذ الاتفاق حتى في المرحلة الأولى منه، وخططت بدقة متناهية لهذه اللحظة العسكرية الحاسمة في قطاع غزة، وترغب في استكمالها بإقالة رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) الذي يشبه هاليفي في التزامه بملف الأسرى، والذي كان عضوًا محوريًا في الوفد الإسرائيلي المفاوض الذي توصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في يناير/ كانون الثاني الماضي.
من المتوقع أن تواصل إسرائيل عملياتها العسكرية في هذه المرحلة بالتركيز بشكل أساسي على القصف الجوي العنيف، وإلحاق خسائر فادحة في صفوف المدنيين الفلسطينيين الأبرياء.
الانتقال إلى المرحلة البرية لن يكون أمرًا يسيرًا في هذه المرحلة، ولكنه يظل خيارًا مطروحًا ويجري التحضير له على قدم وساق. إن العائق الرئيسي أمام الحرب البرية الشاملة هو غياب إجماع إسرائيلي داخلي على استئناف الحرب، ومن الصعوبة بمكان تنفيذ غزو بري واسع النطاق في ظل غياب هذا الإجماع، لا سيما وأن هناك قناعة راسخة في صفوف غالبية الإسرائيليين، وخاصة بعد الشهادات المؤثرة التي أدلى بها الأسرى المفرج عنهم، بأن الحرب والعمليات العسكرية تهدد حياة الأسرى الأحياء، وقد تحول دون إطلاق سراحهم في نهاية المطاف.
ومما يزيد من تعقيد الغزو البري واحتلال القطاع أن هذه المهمة تتطلب استدعاء مئات الآلاف من جنود الاحتياط، الذين أنهكتهم بالفعل خدمتهم الطويلة السابقة (هناك من خدم 350 يومًا متواصلة)، فضلًا عن أن امتناع الحكومة عن تشريع قانون لتجنيد المتدينين الحريديم سيزيد المشهد الاجتماعي تعقيدًا واشتعالًا، ويؤدي إلى رفض واسع النطاق للالتزام بخدمة الاحتياط، لا سيما وأن الغزو البري لم يخدم قضية الأسرى الإسرائيليين بأي شكل من الأشكال.
واستنادًا إلى ما سبق، ستكتفي الحكومة بتنفيذ عمليات قصف جوي مكثف حتى تتمكن من التعامل مع العقبات التي تعترض طريق الغزو البري، وتمرير موازنة الدولة في نهاية الشهر.
لذلك، فإن استئناف العمليات العسكرية يهدف أيضًا إلى الحفاظ على تماسك الحكومة الائتلافية الهشة، وإعادة حزب "عظمة يهودية" المتطرف برئاسة إيتمار بن غفير إلى الحكومة، وذلك لضمان تشريع قانون الموازنة العامة للدولة، حتى لا يقع نتنياهو تحت رحمة ابتزاز الأحزاب الدينية الحريدية التي هددت بعدم التصويت على الموازنة إذا لم يتم تشريع قانون يعفي المتدينين من الخدمة العسكرية.
في خضم استئناف العمليات العسكرية، سيتصاعد الاحتجاج الشعبي العارم في المجتمع الإسرائيلي ضد الحكومة وسياساتها الطائشة، ولكن اتضح أن هذا الاحتجاج لم يؤثر على قرار الحكومة باستئناف العمليات، وهذا نابع من عاملين رئيسيين: أولهما، أن الموقف الداعم للاتفاق وإعطاء الأولوية لملف الأسرى في أوساط الإسرائيليين لم يترجم إلى حراك شعبي كبير يتناسب مع هذا التأييد الواسع، ولكن ربما استئناف الحرب يغير من هذا الواقع المرير، فتتلاقى حراكات اجتماعية مختلفة لتشكل احتجاجًا كبيرًا وواسعًا، مثل احتجاج جنود الاحتياط، والاحتجاج ضد عودة التغييرات الدستورية، وإقالة رئيس الشاباك، بالإضافة إلى احتجاجات عائلات الأسرى المكلومة.
أما العامل الثاني، فهو تعويل عائلات الأسرى على ترامب للضغط على نتنياهو، وهو رهان خاسر بكل المقاييس، ولكنه ساهم في تراجع حركة الاحتجاج، حيث علق المؤيدون لملف الأسرى آمالهم على ترامب للقيام بذلك بدلًا من ممارسة ضغوط حقيقية ومؤثرة على الحكومة.
وقد تبين لهم الآن أن ترامب ساهم بشكل فعال في الدفع نحو هذه العمليات العسكرية المتهورة، وربما يساهم ذلك في تغيير إستراتيجية الاحتجاج، بحيث تكون مُركزة بشكل مباشر على الحكومة وأعضائها، وتساهم في توسيع نطاقها وفعاليتها.